الأربعاء، مارس ١٥، ٢٠٠٦

حلقات إذاعية أخرى








السبت، مارس ١١، ٢٠٠٦

إسبانيا، الموقع والسمات الجغرافية


عندما ننظر إلى خارطة القارة الأوربية ونرى سواحلها وأطرافها وكأنها تشبه جسم حيوانٍ زاحفٍ قدماه الكبيرتان هما شبه الجزيرتين الإسكندنافية، والأناضول ويداه المبسوطتان هما الجزيرة البريطانية في الشمال وشبه الجزيرة الإيطالية في الجنوب، فإن شبه جزيرة أيبيريا أو إسبانيا والبرتغال المعروفتين اليوم تكون هي رأس هذا الجسم، الذي تترامى أطراف القارة الأوربية لترسم لنا شكله في خارطة العالم.. وهذا الرأس، هو في الحقيقة رأس أوربا المطل على الجنوب والمتصل بإفريقية من جهة المغرب، لهذا كانت أهميته الإستراتيجية البالغة عبر مراحل التاريخ المتتابعة كحلقة الاتصال المباشر بين شمال البحر المتوسط وجنوبه وميدان الصراع المتواصل بين حضارات الجنوب وحضارات الشمال من جهة، وبين حضارات الشرق وحضارات الغرب من جهة أخرى. ـ

ومع كون القارة الأوربية كياناً معزولاً من الناحية الجغرافية عن بقية الكتلة اليابسة المكونة للعالم القديم حيث تقع جبال الأورال ومرتفعات القوقاز في الشرق حائلةً بين السهل الروسي وبين ما ورائه من الصحاري السيبيرية وأصقاع آسيا، وتقف عدة بحار هي قزوين والبحر الأسود ومرمرة وإيجة حائلةً بين الجنوب الشرقي لأوربا وبين آسيا الصغرى، تاركة ممرين ضيقين بين البلقان والأناضول هما البوسفور والدردنيل، ولا يبقى بعد ذلك إلا البحر المتوسط في الجنوب، فاصلاً بين سواحل وجزر أوربا وبين سواحل إفريقية السمراء، وبحر الشمال والمحيط المتجمد الشمالي وهي مساحات شاسعة مترامية من المياه والثلوج لا تفضي إلى أرض مأهولة أو شعوب متحضرة، لهذا فقد كانت القارة الأوربية دائماً ذات طبيعة تاريخية خاصة ناتجة عن اختلاف الوضع الجغرافي وتميزه عن بقية قارات العالم القديم، وظلت شبه الجزيرة الإسبانية هي الرأس المتدلي جنوباً وكأنه وجه أوربا الناظر إلى إفريقية وبقية العالم القديم، وكانت سواحل إسبانيا الشرقية منذ القدم هي السواحل المواجهة لفينيقية وبلاد الشام والتي تستقبل تجارة الفينيقيين (العرب الأوائل في سواحل لبنان وفلسطين) عبر المتوسط ومعها ثقافتهم وعقائدهم كذلك.. كما أن وقوع إسبانيا على دوائر عرض مشتركة مع بلاد الشام وجنوب الأناضول جعل ظروف المناخ وطبيعة المحاصيل الزراعية وطبيعة أراضيها عموماً متشابهة إلى حد بعيد مع تلك البلاد النائية ما زاد من أسباب التقارب والتواصل بين شعوب المتوسط على ضفتيه الشرقية والغربية. ـ

وعلى مر العصور كانت شبه الجزيرة الإسبانية هي صفحة اليابسة المواجهة للمشرق وهي في الوقت نفسه وجه أوربا وعينها المطلة على فضاء المحيط الأطلنطي اللامتناهي والذي كان يطلق عليه في الماضي "بحر الظلمات"، وكان من الطبيعي في إطار كل هذه المعطيات الجغرافية أن يصبح لإسبانيا هذا الموقع الاستراتيجي الفاعل عبر مراحل التاريخ المتوالية، وأن تكون شبه الجزيرة هي ميدان اللقاء والمواجهة والتفاعل بين أوربا المسيحية وبين العالم الإسلامي كلٌ بحضارته وتاريخيه ورسالته وأسباب ومظاهر القوى المعنوية الناعمة والقوى المادية القاهرة على السواء، كما أنه كان من الطبيعي والمعقول أن تنطلق اليد الأوربية من البر الأسباني لتتحسس ما وراء المحيط وليبصر الوجه الأوربي المطل على المحيط لأول مرة ساحلاً غربياً لهذا الامتداد الشاسع من المياه وليبدأ في كتابة صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإنساني وتاريخ الحضارة البشرية وسنن الإمبراطوريات، كان كل هذا مترتباً على وقوع إسبانيا رقعة فاصلة بين شرق العالم وغربه، ومساحة يابسة واصلة بين جنوب العالم وشماله، وملتقىً للحضارات الإنسانية ومسرحاً للنزاعات ومدرسة من مدارس التاريخ تستحق منا أن نقرأ فيها ونتعلم سنن الحضارات ومآثرها ومراثيها، لندرك كيف يمكننا أن نكتب بأيدينا صفحات التاريخ للزمن القادم.. ـ
ومن الناحية الداخلية فإن شبه الجزيرة تبرز لنا وجهاً تضاريسياً يبدو بعض الشيء معقداً، ولكن قبل أن نخوض في الطبيعة التضاريسية لأرض الجزيرة، ينبغي أن نقف برهة عند أثر المعالم التضاريسية للأرض في رسم حركة التاريخ، فإننا لن نكون مبالغين حين نشبه حركة النزاعات بين الأمم والشعوب ومد الإمبراطوريات وصدام الحضارات بحركة الماء المنساب من أعلى تل إلى أدناه إذا قابلته كتلة من الصخور انحرف عن مساره إلى مسار آخر وإذا استوقفه سدٌّ علا وتجمع حتى يسلك طريقاً آخر أو يفيض من فوق السد فيستكمل حركته واندفاعه، وإنما تعمل الجبال والوديان والأنهار والبحار في سير حوادث التاريخ وحركة الأمم كما تصنع تلك الموانع الطبيعية البسيطة التي تصورناها في سير حركة الماء وتدفقه، فنحن حين ننظر إلى خارطة أوربا السياسية كما هي مرسومة اليوم أمامنا، لن يكون من قبيل المصادفة أننا نرى جل الحدود السياسية المرسومة متوافقة أو "متوقفة" على نحو ما عند معالم طبيعية كالأنهار أو سلاسل الجبال، فإيطاليا تستظل في الشمال بجبال الألب، وفرنسا تقف بين البرينيه في الجنوب ونهر اللورين والأراضي الوطيئة في الشمال، وبريطانيا تقف عند مضيق دوفر ويفصلها القنال الإنجليزي عن بقية البر الأوربي، وهذا مثال مبسط وواضح من واقع اليوم على أثر التضاريس والمعالم الطبيعية للأرض في تاريخ الأمم وسياسات الدول، وقد كان كذلك لطبيعة إسبانيا وتضاريسها أعظم الأثر في رسم صورتها عبر مراحل التاريخ المتتابعة بداية بحكم الرومان مروراً بغزو قبائل البربر، ثم الدولة الإسلامية، انتهاءً بالمملكة الكاثوليكية ثم إسبانيا الحديثة.. ـ

فإسبانيا تبدو للوهلة الأولى كهضبة كبيرة، وهي تحتوي على عدة سلاسل جبال أبرزها من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي: جبال كانتابريا ومرتفعات جليقية، سييرا جوادراما (جبال وادي الرملة)، سييرا مورينا (جبال الشارات)، سييرا نيفادا وهذه السلاسل الأربعة تخترقها مجموعة من الأنهار كلٌ يشكل وادياً يفصل إحداها عن الأخرى، وهي على نفس الترتيب: نهر دويرو، نهر التاجوس، نهر وادي يانة (جواديانا)، نهر الوادي الكبير (جواديلكيفير).. وقد رسمت هذه السلاسل بأنهارها الأربعة الفصول الأربعة لتاريخ إسبانيا منذ عام 711م وحتى عام 1492م، ومن فوق كل هذه التفاصيل أتت سلسلة جبال البرينيه لتكون الغطاء الذي يغلق العلبة على ما تحتويه، هذه العلبة بالطبع هي شبه الجزيرة الإسبانية التي نتحدث عنها.ـ

مصير العالم واكتشاف الأمريكتين

لم يكن ظهور العالم الجديد لبحارة وقراصنة الإسبان والبرتغاليين، لم يكن سوى محاولة للالتفاف حول الهيمنة الإسلامية عبر قارات العالم، فالدولة العثمانية كانت قد أوصدت مداخل البوسفور والدردنيل، والمماليك كانوا مسيطرين على الممرات المائية التي تصل شرق العالم المعروف بغربه، حين برزت فكرة الدوران حول الكرة الأرضية للوصول إلى الصين والهند وجزر الملايو، غير أن الهوة كانت هائلة الاتساع، بين ما فعل الإسبان والبرتغاليون حين دخلوا الأمريكيتين غزاة، وبين ما فعل المسلمون حين فتحوا بلاد الدنيا في المشرق والمغرب..ما دخل الإسبان ومن خلفوهم إلى ذلك العالم بأخلاق الفروسية ورسالة الفاتحين أولي المجد والحضارة، لكنما بدناءة القراصنة وخسة اللصوص وانتهاز السفلة.. فأتوا على الأبرياء وقضوا على الحضارات التالدة، وطمسوا ثقافات أهل الحواضر والبوادي في تلك القارات والجزر.. ـ
كانوا ينشئون عالماً آخر لهم.. لهم وحدهم، بمقاييسهم الخاصة، ومفاهيمهم الخاصة.. يطمسون فيه كل ملامح الماضي، ويتحررون فيه من قيود الحاضر، ليصنعوا لأنفسهم المجد الذي أرادوا على الوجه الذي يرغبون.. ـ
وإن ما يحدث اليوم، ليس سوى امتداداً لما حدث بالأمس، وقد صدقت في كل هذه الأحداث كلمة كولومبوس حين اكتشف العالم الجديد... "الآن التف الحبل حول عنق العالم الإسلامي، وبقى أن نشدد الخناق" ـ
إنني أستطيع أن أتخيل مدى حنق ذلك الرجل حين نزل إلى "كوبة" فوجد على صخور الجبال والجدران المتهالكة عبارات عربية وبقايا آيات من القرآن الكريم ثم مسجد قديم بمأذنة تقف أعلى التل شامخة شاهدة على عظمة أمة ومجد حضارة لم تدخر وسعاً أن توصل رسالة الحق والخير والسلام إلى أبعد بقعة معروفة على سطح الأرض..ـ

الخميس، مارس ٠٩، ٢٠٠٦

كثير من الأعياد.. قليلٌ من الحب

لعل من أبرز المفارقات التي تلتقي مع الخواء الفكري السائد بين عرب اليوم، الإفراط في استخدام لفظ الـ"عيد" وإضفاء رسمه على كل مناسبة قومية أو اجتماعية أو سياسية حتى صارت كثيرة أيام الأعياد في سنواتنا العربية كما هي كثيرة أيام الأحزان فيها على السواء، وإن عين المفارقة هنا تكمن في المعنى الأصيل لكلمة "العيد"، فالعيد كلمة درجت الشعوب على استخدامها منذ القدم لوصف المناسبات التي يرتبط فيها الاحتفال ببعد عقدي وشعيرة مقدسة، ولعل هذا يبرز لنا جلياً حين نلتفت إلى العبرية القديمة والحديثة على السواء فنجد أن المرادف الحرفي لكلمة العيد هو كلمة "حَج" !! وحين يقوم اليهودي بتحية صاحبه أو جاره يوم العيد يقول له "حج سمييَح" أي عيد سعيد.ـ

والحال ذاته في اللغات الأجنبية غير السامية فنحن نرى فيها أن كل الأيام التي نحتفل نحن بها ونخلع عليها سمت العيد وسمته توصف في تلك اللغات بوصف "يوم..كذا" فما نسميه مثلاً "عيد الحب" هو في الإنجليزية يوم الحب..ـ

"Valentine's Day"

وما نسميه عيد الاستقلال أو الثورة يدعى في الغرب يوم الاستقلال..ـ

"Independence Day"

وليس عيد الاستقلال.ـ


إن الإفراط في إضفاء القدسية على كل ما يقصو ويدنو من مناسبات وأحداث هو بحد ذاته ذوبان القدسية واندثارها في وجدان المجتمع، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك انقلاب الأوضاع بين المقدس وغير المقدس وبين المتغير والثابت، حين يمسي من المألوف على نحو ما أن تصدُر المجلات والأعمال الأدبية تقدح في الشرائع والمعتقدات السماوية وتنقد الرسل وتسخر من تعاليمهم علناً بغير غضاضة تحت ستار حرية الإبداع والتعبير، بغض النظر عن رد فعل الشارع على أية حال، بيد أن أحداً من أولئك لا يجترئ على المس بمكانة رئيس بلاده أو أميرها، إنما تقف أمامه ههنا خطوط حمراء تصنع ضرباً جديداً من التقديس الذي لا نتحدث عنه كثيراً، لكننا نصنعه بأيدينا ونختزنه في قلوبنا خوفاً ورهبة.ـ


وهكذا فإن كل ما هو ثابت يستحيل متغيراً، وكل ما هو مقدس يصبح قابلاً للنقاش والنقد، في حين تتحول الأعراض الزائلة والمتغيرات الهشة (كالأنظمة الحاكمة ورموزها) إلى ثوابت ومقدسات لا يمكن المساس بها بأي حال، وكأنه قد كتب لها الخلود وكتب على الأمة الفناء.ـ


وعلى هذا النحو فإن الثوابت التي تصنع للمجتمعات ثقافتها وسمتها المميز وللحضارات تاريخها وسيرتها، تذوب شيئاً فشيئاً، تاركةً وراءها خواءً يجعل المجتمع مَحَطاً لكل ثقافة دخيلة ومرتعاً لكل سلوك شاذ عن طبيعته وقيمه، فيُمسخ وجه المجتمع ويهوي بغير وعي منه ولا رأي من أبنائه نحو الذوبان الكامل والاندثار في خضم المحيط المتلاطم من تيارات التغيير التي تبعثها ثقافات خارجية أشد وقعاً وأعمق تأثيراً.ـ


كثيرة هي شعارات الحب التي يتبادلها الفتيان والفتيات من شباب العرب في هذه الأيام، وقليلة هي أمارات الحب الحقيقي الذي يكنه هؤلاء الشباب لأوطانهم وأمتهم.. ـ

لمحات من عالم الغد

في عالم اليوم تبدو أمام المشاهد صورة واضحة للقوى المسيطرة على العالم والمسيّرة لحركة التاريخ، فوفرة الموارد وقوة الاقتصاد وتقدم التقنيات وارتقاء الصناعات، كلها مجتمعة أمارات عظمة وسيطرة الدول صاحبة السيادة على الخارطة السياسية للعالم، وصاحبة الريادة على الخارطة الزمنية للتاريخ، فهي الدول التي تحتكم على الترسانات العسكرية، والاستراتيجيات الكبرى التي تقرر مصائر الشعوب وتخط مستقبل الأمم، تصطنع الممالك والجمهوريات تارة وتسحق الثقافات والشعوب تارة أخرى، ولا تقبل أن يجترئ أحدٌ فيقف حائلاً دون نفاذ مخططاتها وتحقيق مصالحها الإستراتيجية..ـ

وعندما نتأمل الخارطة السياسية لهذا العالم لا نستغرق الكثير من الوقت لنكتشف أن المناطق الواقعة في النواحي الشمالية منه تحظى بثقل سياسي ونفوذ عسكري واسع على بقية نواحيه الأخرى، فيما عدا أقصى المشرق.. حيث ذلك العملاق الآسيوي السمين المتخم بالكثافة البشرية، والمفعم بالطاقة الإنتاجية وحركة النمو المذهلة، والذي لا يبدو أنه من السهل تحريكه أو التخطيط له حسب ما تشتهي أنفس الساسة والعسكريين أصحاب الشمال والغرب..!ـ


ولعله من الطريف أن نرى صورة مشابهة لما نحن عليه اليوم قد ظهرت في القرون الوسطى، حيث تعرض العالم "المتحضر" المتمثل في الدولة الرومانية في جنوب أوربا لغزوات متتابعة من الوندال والنورمان والقوط وغيرهم من القبائل البربرية التي أتت أيضاً من "الشمال" لتهدم عمران روما وتحرق ثقافتها وتلتهم مجدها مخلفة وراءها فيما بعد الدول القومية القائمة في أوربا إلى يومنا هذا، ولعلها هي أيضاً قد صنعت لنفسها ولشعوب المنطقة تاريخاً وأحكمت قبضتها على أوربا في مرحلة من مراحل تاريخها تماماً كما تحكم دول الشمال في أوربا وأمريكا وآسيا قبضتها على عالم اليوم..ـ


كانت هذه لمحات من عالم الأمس.. وعالم اليوم..ـ
دعونا نختلس معاً.. نظرة سريعة إلى عالم الغد، لنرى كيف يمكن أن يكون..ـ
ولنعلم أولاً أنه إذا كانت صورة اليوم تصنعها الموارد والثروات والتقنيات الحديثة والترسانات العسكرية، فإن صورة الغد تصنعها طبائع المجتمعات وحصاد أجيالها الصاعدة من العلوم والمعارف والأخلاق والثقافات، وإذا كانت الجيوش هي التي تخوض معارك اليوم، فإن المجتمعات هي التي تخوض معارك الغد.. وإذا كانت معركة اليوم تقرر نصر دولة أو هزيمتها، فإن معركة الغد تقرر بقاء مجتمع وحضارة أو اندثارهما..ـ
وبالتالي فإننا كي نختلس نظرتنا تلك إلى عالم الغد فإنه يكفينا أن نطلع على تداعيات الحالة الثقافية والأخلاقية للشعوب في عالم اليوم.. ما يمكننا من استقراء مصائر تلك الشعوب أو مصارعها.. في عالم الغد!ـ


ولا يخفى أن تماسك البناء الاجتماعي لأي أمة يكرسه ويدعمه حضور وعيها الأخلاقي، واتصال حلقات تاريخها بحاضرها واتضاح وترسخ هويتها في نفوس أبنائها وأنظمتها الحاكمة، وكل هذا ينعكس بدوره على قوة البناء الأسري وإنتاجه لأجيال متتابعة متجددة قوية، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، وبعث الروح الحضارية لأمتهم من جديد وكتابة صفحة جديدة من صفحات تاريخها..ـ


وإن الأمم التي لا تنتج للمستقبل أجيالاً، هي أمم لا تدخر لغدها تاريخاً، ولا تحتكم على مقومات البقاء والتواجد الفعال في هذا الغد القريب المرتقب.ـ


ولهذا فإن أصدق المؤشرات الدالة على هذه القوى المستقبلية الكامنة في المجتمعات، تتمثل في معدلات الخصوبة، والنمو السكاني، ومتوسطات الأعمار لكل مجتمع، ونسبة أفراد المجتمع تحت سن الإعالة.. إلى آخر ذلك من المؤشرات التي تنبئ بمناخ اجتماعي صحي يطلعنا على مستقبل واعد، أو مناخ اجتماعي فاسد يعكس حالة اختناق عرقي يتعرض لها الشعب، ويلقي بظلال الفناء على تاريخ تلك الأمة..ـ


فحين ننظر إلى دول ثلاث من كبريات دول الشمال اللواتي تحدثنا من قبل عن سيطرتها وسطوتها في أنحاء عالم اليوم.. ولتكن فرنسا وبريطانيا وروسيا..ـ


نجد أنه بالنسبة لفرنسا:
معدل النمو السكاني: % 0.39
متوسطات الأعمار: الرجال/ 37 سنة
النساء/ 40.1 سنة

معدل الخصوبة: يولد 1.85 طفل لكل امرأة


وبالنسبة لبريطانيا فالوضع أسوأ:
معدل النمو السكاني: % 0.29
متوسطات الأعمار: الرجال/ 37.6 سنة
النساء/ 39.8 سنة

معدل الخصوبة: يولد 1.66 طفل لكل امرأة


أما روسيا:
معدل النمو السكاني: % -0.45
متوسطات الأعمار: الرجال/ 34.7 سنة
النساء/ 40.7 سنة

معدل الخصوبة: يولد 1.26 طفل لكل امرأة


إن متوسطات الأعمار لكل من الرجال والنساء في كل دولة من هذه الدول الثلاث تكشف لنا حقيقة ينبغي أن تكون مفزعة لكل من يطلع عليها من أبناء تلك البلاد، فإن أمماً تبلغ متوسطات أعمار أبناءها ما بين السابعة والثلاثين والأربعين سنة لأمم حرية أن ننعتها بالكهولة، خاصة وأننا نتحدث عن معدلات نمو سكاني لا تبشر بقدوم أجيال جديدة إلى المستقبل لتجدد شباب هذه الأمم.. فإن معدلات الـ% 0.39 والـ% 0.29، ومعدل سالب مثل ما في الإتحاد الروسي: %- 0.45 تظهر لنا إلى أي مدى تنكمش هذه الشعوب وتذوب أعراقها مع انقضاء السنوات وتقادم الأجيال ويتضح لنا هذا بجلاءٍ حين نلتفت إلى الجنوب ونلقي نظرة على مجتمعات الدول النامية غير ذات الثقل على المسرح السياسي للعالم، ففي العراق مثلاً نرى معدل النمو السكاني: 2.74% أي تسعة مرات ونصف معدل النمو السكاني في بريطانيا، كما نجد أن متوسطات الأعمار تتراوح بين 19.1 و 19.3 سنة فقط..! وبالتالي فنحن هنا نتحدث عن دولة فتية ناهضة متطلعة إلى مستقبل واعد متجدد..ـ


وفي سوريا نرى متوسط الأعمار لا يزيد على الـ20 سنة، ومعدل النمو السكاني يصل إلى 4,2%، كما نجد في مصر أن متوسطات الأعمار تدور حول الـ23 سنة، ومعدل النمو السكاني يبلغ 1.83% ..ـ


وكل هذا يعكس لنا وجهاً فتياً وقلباً نابضاً للمستقبل..ـ


وكذا هو الحال في جل المجتمعات التي لم تزل تحتفظ ببناء أخلاقي واجتماعي متماسك، وتقوم على كيان أسري متكاتف ثابت.. يخرج للمجتمع عاماً بعد عام وعقداً بعد آخر، وزمناً بعد زمن، روحاً قوية متجددةَ للحضارة الإنسانية.ـ


ولهذا فإننا حين نختلس تلك النظرة إلى عالم الغد من خلال استقرائنا لهذه البيانات استقراءً دقيقاً نستطيع أن نبصر جلياً كيف يمكن أن يكون مستقبلنا، ومستقبل هذا العالم.ـ


ذلك أن معدلات النمو السكاني ومعدلات الخصوبة لمجتمعات الدول الكبرى التي ذكرناها آنفاً والتي ظلت تتراجع على مدار العقود الأخيرة في هذا الزمن المعاصر ترتبط ارتباطاً عكسياً متسارعاً بمتوسطات الأعمار التي تسود تلك المجتمعات، فكلما تضاءل حجم الأجيال التي تنتجها تلك الأمم فإن متوسطات الأعمار السائدة في مجتمعاتها تزداد جيلاً بعد جيل.. كما أن تزايد متوسطات الأعمار من (31 - 32) مثلاً إلى (37 - 39) ثم إلى (40 - 41) ينعكس بدوره على معدلات الخصوبة في المجتمع عموماً، لأن المجتمع الفتي على وجه العموم أقرب وأقدر على الإنجاب وإنشاء الأسر ورعاية الأبناء من المجتمع الذي ينزلق إلى مرحلة الكهولة ومن ورائها إلى الشيخوخة، حتى يكاد يفقد خصوبته الإنجابية وقدرته على إنتاج أجيال جديدة تحافظ على مكانة أمتها في المستقبل، وبهذا نجد أن تراجع القيم الأخلاقية وتداعيات معدلات النمو السكاني المنخفض يقود المجتمع إلى الكهولة ثم إلى الهرم، وهذه بدورها تؤثر سلباً على معدلات الخصوبة فنجد أن تلك المجتمعات قد دخلت في دائرة مغلفة من التراجع والانهيار الذي ينتهي بفناء الأمة، وانقضاء تاريخها، وكأننا نشاهد دوامة مائية عميقة ينتهي مصير كل من يسقط فيها إلى الغرق..!ـ


إن كل ما أوردناه في هذا المقال ليس محض تخمين أو افتراض جزافي، فإن هذه المعدلات التي أوردناها وغيرها من المؤشرات ترد سنوياً في العديد من التقارير العالمية، مثل الـ CIA World Factbook ونستطيع من خلالها أن نرصد بكل بساطة الاتجاه العام لنمو وانكماش الأمم والأعراق كل سنة.. ونكتشف بعض الملامح العامة لمستقبل عالمنا، تلك الملامح التي تكون غاية في الوضوح عندما يكون التباين عظيماً بين الأمم مثل ما هو الحال بين دول الشمال والجنوب..ـ


لهذا فإن من يراقب الأوضاع الجارية، ويرقب المستقبل القادم، يستطيع أن يبصر بوضوح، أن المدافع والصواريخ والطائرات والمدمرات الرابضة في أنحاء الشرق الأوسط وغيره من البقاع الساخنة في عالم اليوم، سوف لن تجد من يداعب أزرارها غداً، لكي يطلق صاروخاً أو يحرك طائرة..
وأن مجتمعاتنا ينبغي أن تبدأ في التحرك من الآن، لأنها في تلك اللحظة الآتية المرتقبة والتي سيفرضها علينا المستقبل شئنا ذلك أم أبيناه، سوف تكون هي الكنانة التي تقدم لهذا المستقبل ذخيرته وعدته، وسوف تعود هي مرة أخرى لتمارس دور الريادة، ولتحمل شعلة الحضارة... فقط.. إذا وعت حجم ذلك الدور المرتقب، وأعدت نفسها وأجيالها القادمة لتلك اللحظة.ـ

يومان في عمان

ليست الأردن سوى مملكة اصطنعت في الغرب، لملك أتى من الحجاز منبوذاً بغير مُلك، وشعب خرج من فلسطين مطروداً بغير وطن

هذه باختصار شديد وغير مخل.. الصورة المجردة التي ارتسمت في ذهني للأردن عقب أولى زياراتي لها، هكذا.. دون أدنى قدر من التجمل أو المواربة بدت لي الأردن على هذه الحال خلال بضعة أيام قضيتها بين عمان والعقبة.ـ


منذ أن خرجت من مطار الملكة علياء (والدة الحسين رحمه الله) حتى رجعت إليه مغادراً لم أقابل أردنياً واحداً "لم يحاول إخفاء" كونه من أصل فلسطيني.. جلهم يقول إن ثلثي الملايين الستة التي تملأ ربوع المملكة الهاشمية أو يزيد، من أصل فلسطيني.. تناولت هذه المعلومة التي سمعتها من الكثير أو يكاد الكل يجمع عليها من مختلف الجهات والأعمار والثقافات، السائق، ومندوب المبيعات، والعامل في مجال تقنية المعلومات، والمتخصص بالعمل الإعلامي.. الجميع يجمع على رأي واحد.. غير أني طفقت أبحث في شبكة المعلومات عن رقم رسمي واحد يؤيد هذا الزعم.. فلم أجد !ـ

كمواطن مصري قاهري المولد، مقهوري المنشأ أذهلتني بالطبع الكثافة السكانية المنخفضة نسبياً، في بلد يبلغ تعداد جميع سكانه ربع سكان القاهرة في ساعات النهار!، فكنت أمشي في شوارع العقبة في الثامنة مساءً ليتهيأ لي أنني أعبر أحد ميادين القاهرة في الرابعة فجراً..ـ


هذا الانخفاض النسبي الحاد في الكثافة السكانية، الذي يلحظه المصري بالذات ولا يشعر به كثيرون غيره، حدا بالفضول أن يقفز إلى عقلي، فانطلقت أقرأ في تقارير الإحصاءات السكانية التي صارت مطالعتها إحدى هواياتي مؤخراً، لأجد أن الأردن بلد يحمل فوق أرضه ستة ملايين وثلث المليون نسمة تقريباً، ربعهم يقطن عمان وضواحيها، والملايين الستة رقم لا بأس به أخذاً بالاعتبار حجم الأردن ومواردها، ولكنه رقم ضئيل أمام دول عربية أخرى كسورية وفلسطين والعراق.. إلا أن ما لفت نظري أنني عندما نظرت في تقرير لموقع

Earth Trends

وجدت أن تعداد سكان الأردن بعد إعلان قيام دولة إسرائيل بعامين أي عام 1950م كان 472 ألفاً فقط، أقل من نصف المليون نسمة.. وفي عام 2002م وصل إلى 5 ملايين و196 ألفاً.. أي أنه قد تضاعف في نصف القرن الأخير بنسبة 1000% في حين أن دولاً مثل مصر وسوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر كانت أعداد السكان فيها قد تضاعفت في نفس الفترة بنسب: 300% و600% و480% على الترتيب.. وقد تضاعف تعداد السكان في الأردن بهذه النسبة الهائلة برغم كون معدلات الخصوبة السائدة فيه ليست بالمعدلات الضخمة مقارنة بالدول العربية المحيطة فهو مثلاً مساوياً لمعدلات الخصوبة في سوريا وقريب منها في العراق، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نعزو الارتفاع الكبير والمطرد في عدد السكان من أربعمائة واثنين وسبعين ألفاً إلى ستة ملايين وثلاثمائة ألف في خمس وخمسين سنة إلى التكاثر والإنجاب بمعدلاته المعروفة في تلك الفترة !ـ


هذه الجولة السريعة جعلتني شيئاً فشيئاً أتقبل ما أسمعه من الأردنيين الذين يخبرونني جميعاً واحداً تلو الآخر أنهم من أصول فلسطينية وأنهم أغلبية في هذا البلد، وأشعر أن تلك الزيادة (الانفجارية) في عدد السكان ما بين عامي 1950م و2005م لا يمكن أن تكون قد حدثت لأن هؤلاء الذين يسكنون شرقي نهر الأردن يتزوجون وينجبون كثيراً..ـ
وكانت خاتمة هذه الدوامة من الأفكار المتلاطمة، حين دخلت إلى الفندق الذي نزلت فيه بمدينة العقبة، ووقفت أمام مكتب الاستقبال.. إذ لفتت نظري صورة جميلة للملك عبد الله الثاني ابن الحسين مع زوجته الملكة رانيا، وقفت أتأمل الصورة، وإذا بي في تلك اللحظة أتذكر أن الملكة رانيا زوج ملك البلاد هي أيضاً من أصل فلسطيني...! في تلك اللحظة بالذات أخذت أتطلع إلى هذه الصورة وكأني أراها لأول مرة على الإطلاق، وبدا لي لوهلة أن هذه الصورة التي يقف فيها ملك البلاد حفيد الشريف الحسين ابن علي، وزوجه الآتية من الضفة الأخرى لنهر الأردن، أن هذه الصورة بالمصادفة، هي الصورة الكاملة لواقع الأردن وتركيبة مجتمعه.ـ
وذكرت في تلك اللحظة أيضاً كيف نشأت دولة شرق الأردن أو كيف أنشئت، معاهدة "سايكس بيكو" التي صاغت الواقع العربي المرير الذي نعيشه اليوم، والتي وقعت عام 1916م أي قبل منح وعد بلفور بعام واحد، كانت قد قررت تقسيم الشام على النحو الذي هي قائمة عليه اليوم ولمنح أشراف الحجاز سيادة على أراضٍ بديلة عن تلك التي خرجوا منها، واستبقاءً لولائهم فقد منح أحدهم منطقة الجزيرة الفراتية وجزءاً من كردستان في الشمال فكانت دولة العراق التي نعرفها اليوم على خريطتنا السياسية، ورسمت للآخر حدوداً سياسية حول منطقة تقع شرقي نهر الأردن، بين فلسطين والعراق من جهة، وبينها وبين نفوذ آل سعود من جهة أخرى، لم تكن تلك المنطقة من قبل سوى جزءاً مما يعرف ببادية الشام.. أرض صماء حبيسة لا تخترقها أنهار ولا تطل على البحر من إحدى نواحيها، كما أنها لا تنطوي على سمة تاريخية تميزها سوى أنها جزء من أرض الشام غلبت عليه البداوة.. فلم يتمكنوا من تسميتها بغير اسم النهر الذي يحدها من الشرق، فكانت مملكة "شرقي الأردن"..ـ


فور أن صعدت إلى غرفتي، وقمت بفتح التلفاز وجدت أمامي الكاتب الصحفي المخضرم، محمد حسنين هيكل في برنامجه يتكلم عن الملك عبد الله الأول، ولقائه به.. ويتحدث في نفس السياق عن ملابسات قيام الكيان الصهيوني..ـ


وكان ملفتاً لنظري كذلك ما ذكره هيكل عن وثيقة تسليم ميناء حيفا للوكالة اليهودية، التي وقعتها الأردن واطلع عليها بنفسه، ساعتها استعرضت في مخيلتي تاريخ المنطقة سريعاً، وتداعيات قيام دولة في شرقي الأردن إلى ظهر الكيان الصهيوني..ـ


وبدا لي من مشهد الخارطة السياسية للشام عبر السنوات الخمسين المنصرمة أن تلك المساحة الصماء التي يغلب عليها الطابع الجبلي تبدو لمن يتأملها (إذا استبعد فكرة إقامة دولة فيها) تبدو منطقة عزل مثالية لحماية الكيان الصهيوني وإيجاد عمق استراتيجي أمني يحفظ بقاء الدولة اليهودية ونموها، إن كل من ينظر إلى تلك المنطقة واضعاً في اعتباره مقتضيات الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني ومتطلباته الأمنية سيكتشف أن المنطقة الواقعة شرقي الدولة اليهودية والتي تتميز دون سائر الدول المحيطة بها بأطول شريط حدودي ملاصق لتلك الدولة إضافة إلى مشاركتها للدولة اليهودية في المصدر المائي الوحيد المتوفر لديها فضلاً عن كونها المساحة الممتدة بين تلك الدولة وبين أطراف عربية قد تكون ذات ثقل في الصراع العربي الإسرائيلي - العراق وسورية على وجه التحديد..ـ


في إطار كل هذه المعطيات، ووفقاً للمتطلبات الأمنية لقيام دولة يهودية بين نهر الأردن وساحل المتوسط، نستطيع ببساطة أن نرى حتمية قيام.. أو "إقامة" دولة مستقلة في هذه المساحة الممتدة شرقي الأردن، تقوم بعزل الأطراف الفاعلة عن ساحة المواجهة الفعلية في الصراع من جهة الشرق، فضلاً عن قيامها باستيعاب و"إذابة" أعداد هائلة من اللاجئين وتحويلهم إلى مواطنين في وطن جديد، حيث تتلاشى قضيتهم وتصبح حقوقهم في طي النسيان.ـ


هذا ما رسمته لنا مقتضيات التاريخ والسياسة..ـ
وأثبتته لنا معطيات الأحوال والوقائع في مرحلة من مراحل التاريخ..ـ


وليس بعد مقتضيات التاريخ ومعطيات الواقع ما يمكن أن يطرح لتوكيد رأي أو تفنيده.ـ


كانت كل هذه المشاهدات والتأملات ما رسم في مخيلتي الصورة الصادمة للبعض، التي صدّرت بها مقالي.. ملكٌ أتى من الحجاز يبحث عن ملك وشعب أتى من فلسطين يبحث عن وطن، وحدود رسمتها مقتضيات المصالح الإستراتيجية لكيان دخيل لن يكتب له البقاء والتوسع إلا في إطار أوضاع إقليمية مهيأة لذلك.ـ


ربما استفضت في الحديث عن الظرف التاريخي وملابساته، ولم يبد أنني أتحدث عن "يومان في عمان" كما عنونت المقال، ولكنني أرى أن إدراك الشعوب العربية لواقعها يبدأ من دراستها وفهمها العميق لتاريخ المنطقة وصراعاتها والقوى الحقيقية الفاعلة فيها.. لهذا فقد رأيت أن الحديث عن الظرف التاريخي وتداعياته هو ما ينبغي لفهم الواقع الذي واجهته حين زرت الأردن لأول مرة.ـ