يومان في عمان
هذه باختصار شديد وغير مخل.. الصورة المجردة التي ارتسمت في ذهني للأردن عقب أولى زياراتي لها، هكذا.. دون أدنى قدر من التجمل أو المواربة بدت لي الأردن على هذه الحال خلال بضعة أيام قضيتها بين عمان والعقبة.ـ
منذ أن خرجت من مطار الملكة علياء (والدة الحسين رحمه الله) حتى رجعت إليه مغادراً لم أقابل أردنياً واحداً "لم يحاول إخفاء" كونه من أصل فلسطيني.. جلهم يقول إن ثلثي الملايين الستة التي تملأ ربوع المملكة الهاشمية أو يزيد، من أصل فلسطيني.. تناولت هذه المعلومة التي سمعتها من الكثير أو يكاد الكل يجمع عليها من مختلف الجهات والأعمار والثقافات، السائق، ومندوب المبيعات، والعامل في مجال تقنية المعلومات، والمتخصص بالعمل الإعلامي.. الجميع يجمع على رأي واحد.. غير أني طفقت أبحث في شبكة المعلومات عن رقم رسمي واحد يؤيد هذا الزعم.. فلم أجد !ـ
كمواطن مصري قاهري المولد، مقهوري المنشأ أذهلتني بالطبع الكثافة السكانية المنخفضة نسبياً، في بلد يبلغ تعداد جميع سكانه ربع سكان القاهرة في ساعات النهار!، فكنت أمشي في شوارع العقبة في الثامنة مساءً ليتهيأ لي أنني أعبر أحد ميادين القاهرة في الرابعة فجراً..ـ
هذا الانخفاض النسبي الحاد في الكثافة السكانية، الذي يلحظه المصري بالذات ولا يشعر به كثيرون غيره، حدا بالفضول أن يقفز إلى عقلي، فانطلقت أقرأ في تقارير الإحصاءات السكانية التي صارت مطالعتها إحدى هواياتي مؤخراً، لأجد أن الأردن بلد يحمل فوق أرضه ستة ملايين وثلث المليون نسمة تقريباً، ربعهم يقطن عمان وضواحيها، والملايين الستة رقم لا بأس به أخذاً بالاعتبار حجم الأردن ومواردها، ولكنه رقم ضئيل أمام دول عربية أخرى كسورية وفلسطين والعراق.. إلا أن ما لفت نظري أنني عندما نظرت في تقرير لموقع
Earth Trends
وجدت أن تعداد سكان الأردن بعد إعلان قيام دولة إسرائيل بعامين أي عام 1950م كان 472 ألفاً فقط، أقل من نصف المليون نسمة.. وفي عام 2002م وصل إلى 5 ملايين و196 ألفاً.. أي أنه قد تضاعف في نصف القرن الأخير بنسبة 1000% في حين أن دولاً مثل مصر وسوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر كانت أعداد السكان فيها قد تضاعفت في نفس الفترة بنسب: 300% و600% و480% على الترتيب.. وقد تضاعف تعداد السكان في الأردن بهذه النسبة الهائلة برغم كون معدلات الخصوبة السائدة فيه ليست بالمعدلات الضخمة مقارنة بالدول العربية المحيطة فهو مثلاً مساوياً لمعدلات الخصوبة في سوريا وقريب منها في العراق، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نعزو الارتفاع الكبير والمطرد في عدد السكان من أربعمائة واثنين وسبعين ألفاً إلى ستة ملايين وثلاثمائة ألف في خمس وخمسين سنة إلى التكاثر والإنجاب بمعدلاته المعروفة في تلك الفترة !ـ
هذه الجولة السريعة جعلتني شيئاً فشيئاً أتقبل ما أسمعه من الأردنيين الذين يخبرونني جميعاً واحداً تلو الآخر أنهم من أصول فلسطينية وأنهم أغلبية في هذا البلد، وأشعر أن تلك الزيادة (الانفجارية) في عدد السكان ما بين عامي 1950م و2005م لا يمكن أن تكون قد حدثت لأن هؤلاء الذين يسكنون شرقي نهر الأردن يتزوجون وينجبون كثيراً..ـ
وكانت خاتمة هذه الدوامة من الأفكار المتلاطمة، حين دخلت إلى الفندق الذي نزلت فيه بمدينة العقبة، ووقفت أمام مكتب الاستقبال.. إذ لفتت نظري صورة جميلة للملك عبد الله الثاني ابن الحسين مع زوجته الملكة رانيا، وقفت أتأمل الصورة، وإذا بي في تلك اللحظة أتذكر أن الملكة رانيا زوج ملك البلاد هي أيضاً من أصل فلسطيني...! في تلك اللحظة بالذات أخذت أتطلع إلى هذه الصورة وكأني أراها لأول مرة على الإطلاق، وبدا لي لوهلة أن هذه الصورة التي يقف فيها ملك البلاد حفيد الشريف الحسين ابن علي، وزوجه الآتية من الضفة الأخرى لنهر الأردن، أن هذه الصورة بالمصادفة، هي الصورة الكاملة لواقع الأردن وتركيبة مجتمعه.ـ
وذكرت في تلك اللحظة أيضاً كيف نشأت دولة شرق الأردن أو كيف أنشئت، معاهدة "سايكس بيكو" التي صاغت الواقع العربي المرير الذي نعيشه اليوم، والتي وقعت عام 1916م أي قبل منح وعد بلفور بعام واحد، كانت قد قررت تقسيم الشام على النحو الذي هي قائمة عليه اليوم ولمنح أشراف الحجاز سيادة على أراضٍ بديلة عن تلك التي خرجوا منها، واستبقاءً لولائهم فقد منح أحدهم منطقة الجزيرة الفراتية وجزءاً من كردستان في الشمال فكانت دولة العراق التي نعرفها اليوم على خريطتنا السياسية، ورسمت للآخر حدوداً سياسية حول منطقة تقع شرقي نهر الأردن، بين فلسطين والعراق من جهة، وبينها وبين نفوذ آل سعود من جهة أخرى، لم تكن تلك المنطقة من قبل سوى جزءاً مما يعرف ببادية الشام.. أرض صماء حبيسة لا تخترقها أنهار ولا تطل على البحر من إحدى نواحيها، كما أنها لا تنطوي على سمة تاريخية تميزها سوى أنها جزء من أرض الشام غلبت عليه البداوة.. فلم يتمكنوا من تسميتها بغير اسم النهر الذي يحدها من الشرق، فكانت مملكة "شرقي الأردن"..ـ
فور أن صعدت إلى غرفتي، وقمت بفتح التلفاز وجدت أمامي الكاتب الصحفي المخضرم، محمد حسنين هيكل في برنامجه يتكلم عن الملك عبد الله الأول، ولقائه به.. ويتحدث في نفس السياق عن ملابسات قيام الكيان الصهيوني..ـ
وكان ملفتاً لنظري كذلك ما ذكره هيكل عن وثيقة تسليم ميناء حيفا للوكالة اليهودية، التي وقعتها الأردن واطلع عليها بنفسه، ساعتها استعرضت في مخيلتي تاريخ المنطقة سريعاً، وتداعيات قيام دولة في شرقي الأردن إلى ظهر الكيان الصهيوني..ـ
وبدا لي من مشهد الخارطة السياسية للشام عبر السنوات الخمسين المنصرمة أن تلك المساحة الصماء التي يغلب عليها الطابع الجبلي تبدو لمن يتأملها (إذا استبعد فكرة إقامة دولة فيها) تبدو منطقة عزل مثالية لحماية الكيان الصهيوني وإيجاد عمق استراتيجي أمني يحفظ بقاء الدولة اليهودية ونموها، إن كل من ينظر إلى تلك المنطقة واضعاً في اعتباره مقتضيات الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني ومتطلباته الأمنية سيكتشف أن المنطقة الواقعة شرقي الدولة اليهودية والتي تتميز دون سائر الدول المحيطة بها بأطول شريط حدودي ملاصق لتلك الدولة إضافة إلى مشاركتها للدولة اليهودية في المصدر المائي الوحيد المتوفر لديها فضلاً عن كونها المساحة الممتدة بين تلك الدولة وبين أطراف عربية قد تكون ذات ثقل في الصراع العربي الإسرائيلي - العراق وسورية على وجه التحديد..ـ
في إطار كل هذه المعطيات، ووفقاً للمتطلبات الأمنية لقيام دولة يهودية بين نهر الأردن وساحل المتوسط، نستطيع ببساطة أن نرى حتمية قيام.. أو "إقامة" دولة مستقلة في هذه المساحة الممتدة شرقي الأردن، تقوم بعزل الأطراف الفاعلة عن ساحة المواجهة الفعلية في الصراع من جهة الشرق، فضلاً عن قيامها باستيعاب و"إذابة" أعداد هائلة من اللاجئين وتحويلهم إلى مواطنين في وطن جديد، حيث تتلاشى قضيتهم وتصبح حقوقهم في طي النسيان.ـ
هذا ما رسمته لنا مقتضيات التاريخ والسياسة..ـ
وأثبتته لنا معطيات الأحوال والوقائع في مرحلة من مراحل التاريخ..ـ
وليس بعد مقتضيات التاريخ ومعطيات الواقع ما يمكن أن يطرح لتوكيد رأي أو تفنيده.ـ
كانت كل هذه المشاهدات والتأملات ما رسم في مخيلتي الصورة الصادمة للبعض، التي صدّرت بها مقالي.. ملكٌ أتى من الحجاز يبحث عن ملك وشعب أتى من فلسطين يبحث عن وطن، وحدود رسمتها مقتضيات المصالح الإستراتيجية لكيان دخيل لن يكتب له البقاء والتوسع إلا في إطار أوضاع إقليمية مهيأة لذلك.ـ
ربما استفضت في الحديث عن الظرف التاريخي وملابساته، ولم يبد أنني أتحدث عن "يومان في عمان" كما عنونت المقال، ولكنني أرى أن إدراك الشعوب العربية لواقعها يبدأ من دراستها وفهمها العميق لتاريخ المنطقة وصراعاتها والقوى الحقيقية الفاعلة فيها.. لهذا فقد رأيت أن الحديث عن الظرف التاريخي وتداعياته هو ما ينبغي لفهم الواقع الذي واجهته حين زرت الأردن لأول مرة.ـ
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية