السبت، يناير ١٩، ٢٠٠٨

النافـــذة - قصة قصيرة

- قصة قصيرة...-
...............................................

الأحداث الواردة في هذه القصة تقع في كل يوم... ربما أكثر من مرة.. ومع العديد من الناس.. نعم.. أقصدك أنت !
...............................................
حاول بصعوبة أن يباعد بين جفنيه لتستقبل عيناه ضوء نهارٍ جديد، وحين تسلل الضوء إلى عينيه وتلفت حوله ببطء.. بدأ يدرك سريعاً لماذا لم يعد بين أهله وإخوته.. وبدأ يميز أبعاد المكان الذي لم يزل يأويه منذ زهاء عام.. لقد كان "صابر" شديد الطموح.. عظيم الأمل فيما يتعلق بالمستقبل ولم يكن بالفتي الذي يكتفي بتعليم الحكومة الإلزامي ثم يلتحق بالجيش لأداء خدمته العسكرية حتى إذا انتهت انصرف إلى صنعة يد يتقنها أو تحول إلى حارس على أبواب إحدى البنايات الشاهقة في "مصر".. صابر كان يحلم أن يكون شيئاً عظيماً.. ولطالما تطلع في كل يوم يسير فيه على رصيف القطار الذي يمر ببلدته، إلى مستقبل باهر ينتظره عند نهاية ذلك الشريط الحديدي.. في محطة مصر..

حين أنهى صابر دراسته الثانوية كان من الأوائل على محافظة الغربية التي ينتمي إليها.. حتى أنه استطاع أن يضع يده على مقعد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.. غير أنه كان "واعياً" كفاية فلم يفكر أو يحلم بدراسة السياسة.. والالتحاق بالسلك الدبلوماسي.. أو أية أسلاك أخرى تقتضي من طلابها أن يكونوا أبناء وزراء، أو أصحاب وسائط أو كما يقول الناس في مصر إجمالاً.. (ناس واصلة)..

وكان على صابر، الذي يدرس الآن الاقتصاد في جامعة القاهرة، أن يجد لنفسه مأوىً.. وأهم من ذلك.. أن يتمكن من الإنفاق على دراسته ودفع تكاليف مأواه الجديد..

بعد طول بحث ولف ودوران وجلوس على الأرصفة.. وجد صابر لنفسه عملاً ليس بالسيء.. فهو على الأقل لا يطالع في عمله إلا أوراق الزهور وباقات الورد.. وليس عليه أن يصطدم بوجوه كالحة وزبائن متغطرسين..

تمكن صابر من إيجاد عمل في محل لبيع الزهور على إحدى نواصي الطريق العام في منطقة غمرة، نظير 250 جنيهاً شهرياً.. -لا بأس- قال لنفسه..كان يدفع 125 جنيهاً لقاء سكنه في شقة صغيرة مع مجموعة من الطلبة.. وكان عليه أن يتدبر أمره ببقية المبلغ على مدار الشهر.. تبين له الآن أن نهاية شريط القطار الذي كان يتأمله وهو ويسير على رصيفه في البلد، لم تكن كما سولت له مخيلته البريئة وقتها.. بل لم تكن حتى قريبة مما تصوره آنذاك.. لكن تلك المخيلة البريئة لم تكن تخلو على الدوام من شيء من العزيمة.. وكثير من الطموح، ما يدفع صاحبنا دوماً إلى الأمام، ويؤكد له أنه في يوم ما سوف يحقق غايته..
.............................................

بعد أن فرغ من صلاة الفجر ارتدى ملابسه في سرعة البرق وارتطم بباب غرفته وهو يندفع خارجاً منها فأمامه طريق طويل ما بين الحي السادس في مدينة نصر وبين غمرة..

كان على صابر أن يصل إلى عمله مبكراً جداً.. حتى يتمكن من المغادرة في منتصف النهار إلى الجامعة في سرعة البرق أيضاً.. ليرى ما يمكن أن يدركه من محاضرات اليوم وما سيقوم بنقله أو مذاكرته مع زملائه المرفهين الذين حضروا جميع المحاضرات.. !
.............................................

قفز من سيارة السرفيس التي أقلته إلى غمرة أمام باب المحل، وأخرج المفتاح من جيب معطفه ليدسه في الباب ويفتح المحل للزبائن ليبدأ يوم عمل جديد.. ويستأنف نضالاً محموماً لشاب يريد أن يبقى على قيد الحياة في قلب القاهرة ويتطلع بشغف إلى شهادة جامعية وطالع مشرق..

وقف صابر يعمل بهمة.. بدأ برَيّ النباتات التي احتاجت إلى الماء.. ثم انتقل إلى تنظيف الزجاج من الخارج، وما لبث أن عاد إلى الداخل لتلميع نوافذ العرض الزجاجية التي تبرز الزهور والنباتات من ورائها في بهاء وروعة مع التماع أشعة الشمس الأولى وانسكاب النور على أوراقها في حنو وألفة..

بدأت يده تتباطأ شيئاً فشيئاً وهو يقوم بتلميع زجاج إحدى النوافذ من الداخل.. آه.. نعم.. كانت إحدى محطات الأوتوبيس تواجه محل بيع الزهور.. وللحظات تعلقت عينا صابر بفتيات القاهرة اللواتي يخرجن في الصباح مثله.. ليتوجهن إلى المدارس والجامعات.. كان دائماً ما يشعر أن ثمة شيء مختلف في فتيات القاهرة.. إنه يراهنّ كل يوم في الشارع وفي الجامعة.. يرتدين غطاء رأس كما ترتديه بنات البلد في محافظته.. لا تختلف ملامحهن كثيراً عن ملامح فتيات الريف اللواتي ألفهن في منبته.. بل لعله كان يرى في محافظته من هن أشد جمالاً وأبهى طلعة من هؤلاء القاهريات.. حتى من دون أن يستخدمن الدهانات والمساحيق الجهنمية التي تستخدمها فتيات القاهرة.. لكنه دائماً ما كان يرى في فتيات هذه المدينة شيئاً مختلفاً.. شيئاً لا يألفه.. ولا يحبه..

وفجأة.. توقفت يدا صابر عن الحركة تماماً.. وتسمرت قدماه في مكانهما.. حين تحركت إحدى تلك الفتيات الواقفات على المحطة.. والتفتت فجأة إلى الوراء.. وياللعجب.. لقد التقت عيناها بعينيه مباشرة.. وكأنها سمعت ما كان يجول بخاطرة بطريقة ما..! ولكن.. مهلاً.. هذه الفتاة ليست كفتيات القاهرة... لم يشعر بذلك الشعور الغريب الذي كان يساوره حين تصادف عيناه فتاة تسير في طريقه.. إنها مختلفة حتى عن فتيات القاهرة اللواتي عرفهنّ.. والأغرب أنها تنظر إليه ! نعم تنظر إليه مباشرة.. كأنها تعرفه جيداً..

تسمر صابر في مكانه حين بدأت تلك الفتاة الواقفة على محطة الأوتوبيس في الاستدارة والاقتراب شيئاً فشيئاً من النافذة التي كان هو يقف خلفها ليلمع الزجاج..

لازالت تقترب.. ونظراتها لا تبتعد عنه..

ومما زاد في دهشته حتى كادت أن تستحيل ذهولاً.. أنها كانت تنظر إليه وعلى ثغرها الرقيق ابتسامة هادئة خفيفة.. تعكس شيئاً من الإعجاب.. وبعضاً من الشغف..

ظلت الفتاة تقترب حتى وصلت إلى النافذة الزجاجية وأصبحت في مواجهة صابر تماماً.. ويده اليمنى تكاد تتجمد فوق زجاج النافذة التي يلمعها من الداخل من فرط الرهبة والدهشة.. وهو لا يدري ما يفعل وما يقول..

وقفت الفتاة بهدوء أمام النافذة.. وبقيت عيناها معلقتان به.. ونظرة الإعجاب والشغف لا تفارق عينيها و.........

وفجأة....

اعتدلت الفتاة في وقفتها.. وتحولت عيناها من الشغف إلى التمعن.. ومن الإعجاب إلى شيء من الريبة..

ضاقت حدقتاها وكأنها تشتبه فيه.. ثم اقتربت برأسها من النافذة وكأنها تتفرس ملامحه لغرض ما..
ثم ما لبثت أن استقامت في وقفتها كالجندي.. وعدلت من وضع طرحتها.. ثم استدارت منصرفة في هدوء ما لبث أن تحول إلى هرولة حين لمحت أوتوبيساً مكيفاً قد توقف عند المحطة..

ظل صابر على وقفته ساكناً لبرهة.. لم يكد يفهم شيئاً مما حدث.. رأسه تحول إلى ميدان عام مليء بالضوضاء.. ما هذه ؟ مجنونة..؟ غير ممكن.. ربما تشبه ملامح وجهه ملامح شخصٍ آخر عرفته تلك الفتاة ؟.. ربما !!!... لم لا.. سكان القاهرة غريبوا الأطوار على أية حال.. ويخلق من الشبه اربعين.. ومن الهـِبل 400..!.

شق سكون المكان وضوضاء الأفكار التي تضاربت في رأس صابر صوت صاحب المحل:
صابر..
أيوة يا حاج.
تعالى يابني عايزك..
أأمر يا حاج
فلوسك يابني
متشكرين يا حاج الله يكرمك..

ينصرف معطياً ظهره للرجل وهو يقوم بعد المبلغ ثم ما يلبث أن يعود إليه من جديد قائلاً في تردد..
-لا مؤاخذة يا حاج...
-خير..
-الفلوس فيها خمسين جنيه زيادة.
-أيوة يابني.. دول عشان تشتري بيهم الكتب بتاعة الترم..

يرد صابر في استحياء شديد وامتنان ظاهر:
-ربنا يخليك يا حاج ويوفقلك ولادك.. ومايحرمناش منك أبداً

أومأ الرجل برأسه لصابر بابتسامة حانية.. وانصرف صاحبنا إلى عمله في نشاط زائد وفرحة غامرة.. معوضاً تلك الدقائق التي سرقتها منه فتاة قاهرية مجنونة.. وقفت تتأمل ملامحه من وراء النافذة !
.............................................

انتهى اليوم نهاية شاقة معتادة في حياة صابر.. الذي غمره النوم وهو يقرأ محاضرة قام بنقلها من أحد زملائه..

وطلع فجر يوم جديد.. ليقوم صابر من فراشه مسرعاً كالمعتاد.. ويعيد ما فعله في اليوم السابق بحذافيره..

واقفاً خلف زجاج النافذة الأمامية للمحل.. يقوم بالتنظيف والتلميع ككل يوم غير آبه لشيء.. وقعت عيناه مصادفة على محطة الأوتوبيس.. فخرجت منه ضحكة ساخرة.. سمع صوتها الـ"حاج" صاحب المحل، حين تذكر ما حصل البارحة أمام هذه النافذة.. ثم تمتم بصوت خفيض -لم يسمعه الحاج- البنت دي أكيد مجنونة..

عادت إليه الرغبة في الضحك.. والدهشة الغامرة إلى حد الذهول حين لمح بطرف عينه نفس الفتاة تستدير من مكانها على محطة الأوتوبيس.. وتتوجه مباشرة إلى النافذة..

ظل وقفاً في مكانه ينتظر ما سوف تفعله..

ظلت عيناها متعلقتان بالنافذة.. وابتسامتها الهادئة لا تفارق ثغرها حتى بلغت نافذة المحل وهو واقف في الداخل يكاد يجن من فرط حيرته..

وقفت تتطلع إليه بإمعان غريب.. وهو ينتظر أن تقوم بشيء جديد.. تلوح له بيدها.. تتكلم.. تشير.. لا شيء من هذا..

بضع ثوان انقضت كدهر، وهي واقفة تحملق فيه عبر النافذة.. وهو كالذي فقد النطق والحركة.. لا يدري ما يقول.. ولا يفهم ماذا يحدث وماذا ينبغي عليه أن يفعل...!

وفي النهاية.. امتدت يدها إلى طرحتها الملونة لتعدل من وضعها كما فعلت سابقاً.. وانصرفت في هدوء.. استدارت وكأن شيئاً لم يكن..

وتحركت بخطوات متزنة واثقة لتقف على المحطة من جديد.. منتظرة ذلك الأوتوبيس المكيف..

صابر لم يعد يفهم شيئاً مما يحدث.. يستحيل أن تكون المسألة مسألة شبه بينه وبين رجل آخر.. هل يمكن أن تكون هذه النظرات الشغوفة نظرات إعجاب حقيقي..؟ لم يكن صاحبنا يشعر في السابق أنه يحتكم على أي قدر من الجاذبية يمكن أن يحمل فتاة على الإعجاب بمظهره أو بشخصه.. فضلاً عن التحديق في عينيه على هذا النحو السافر دون خجل..!

ظلت هواجس صابر تتزايد مع تتابع الأيام.. وحيرته وتساؤلاته لا تجد تفسيراً شافياً .. فقد ظلت نفس الفتاة تترك محطة الأوتوبيس في كل يوم لتقف أمام نافذة المحل الزجاجية وتحدق فيه لبرهة.. ثم تنصرف..

ولا يدري صابر لماذا أصبح بصورة تلقائية ينتظر تلك اللحظة من كل يوم.. وإن كان لايزال لا يفهم ما يحدث.. ولا يملك الجرأة الكافية لكي يسألها بصورة مباشرة أو يحاول أن يتحدث إليها..

وكلما حدثته نفسه بمبادرتها بالسؤال قبل أن تبادره هي بنظرتها الشغوفة.. انبعثت في أعماقه رهبة هائلة.. وكأنه يقدم على القفز في مياه بحر عميقة لا قرار لها..

انتهى الأسبوع سريعاً.. وسافر صابر إلى البلد ليقضي يومي العطلة الأسبوعية مع أمه وإخوته.. و"يرم عظامه" ببعض الطعام الدسم الذي تطبخه أمه.. لكنه هذه المرة عاد بوجه غير الذي سافر به.. وعقل غير الذي حمله معه إلى القاهرة في المرة السابقة.. ظلت صورتها ماثلة أمام عينيه وهي تحدق فيه، وظل صراع عنيف يدور في أعماقه عن ما وراء تلك الفتاة وما ينبغي أن يفعله إذا ما داهمته بنظراتها في الأسبوع المقبل.. صراع عنيف لا يفتر حتى يعود فيشتعل..
.............................................

بداية أسبوع جديد.. وعودة إلى شقاء العمل والدراسة ودوامة سيارات السيرفيس التي يدور فيها صابر بين مدينة نصر وغمرة وميدان الجامعة..

استيقظ في صباح يوم السبت.. وانطلق إلى عمله كما اعتاد في كل يوم.. وهو في حالة من القلق والترقب والتحفز.. إلا أنه كان قد حسم الصراع بينه وبين نفسه..

لقد قرر صابر أن يقف خارج المحل في هذا اليوم.. لن يقف خلف زجاج النافذة.. سيقف لتنظيف الزجاج من الخارج، حتى إذا اقتربت منه مرة أخرى تحدث إليها وجهاً لوجه.. وقطع أسباب حيرته ودهشته بصورة نهائية.. كان قد توصل إلى هذا القرار بعد الصراع العنيف الذي دار في داخله وبعد طول تفكير شغله في يومي الإجازة اللذين قضاهما في البلد..

بعد أن قام بفتح المحل.. وأنجز بعض أعمال الترتيب والرَيّ والعناية بالزهور.. حانت اللحظة المرتقبة، فخرج مسرعاً من الباب الأمامي، ووقف ينظف زجاج النافذة ذاتها.. ولكن.. من الخارج هذه المرة..

ظل يعمل وعينه ترتمي إلى الوراء كل لحظات لترى محطة الأوتوبيس.. حتى رآها وهي تسير بهدوء نحو المحطة.. حتى توقفت عندها تنتظر الأوتوبيس المكيف..

كان هو على وشك الانتهاء من تنظيف النافذة وتلميعها.. فتنحى بعيداً عن واجهة المحل، وارتجفت يده وهي تضع الممسحة جانباً في حركة عصبية.. وقرر أن يستجمع كل ذرة شجاعة في داخله ليقف ويواجهها.. ويعلم ما تريده تلك الفتاة منه..

وفي اللحظة الحاسمة التي انتظرها..
تركت الفتاة محطة الأوتوبيس.. واستدارت إلى الوراء متجهةً في هدوءٍ إلى نافذة محل الزهور، التي قام بتلميعها لتوه..

خطت خطواتها بثقة وهدوء كأنها لا تراه..

وأخذت تقترب... تقترب...

حتى وقفت أمام النافذة، كما كانت تقف أمامها تماماً في الأسبوع الماضي..

غير أنه هذه المرة لم يكن يقف بالداخل في مواجهتها..

تطلعت الفتاة إلى صورتها المنعكسة على زجاج النافذة اللامع..

تبسمت ابتسامتها الهادئة.. ثم عدّلت من وضع طرحتها الحريرية الملونة..

وما لبثت أن استدارت، وانصرفت في هدوء، عائدة إلى المحطة..

وفي هذه اللحظة فقط، أدرك صابر أنه لم يكن هو المقصود بهذه النظرات.. طوال تلك الأيام السابقة.